شيلوا لي كليتي ودوها ليه.. وارقو، سيدة الشاي التي لقّنتنا درسًا في الوفاء
متابعات – الميدان 24 _ رغم الحرب التي مزّقت قلب الخرطوم وفرّقت شوارعها وسكّانها، تبقى بعض الملامح حيّة في الذاكرة، تشهد بأن المدينة ما زالت تنبض بالحياة والإنسانية. في مقدمة هذه الملامح، تبرز ابتسام داؤود، المعروفة في الوسط الصحفي باسم “وارقو” — سيدة الشاي التي تحوّل “برادها” إلى وطن صغير وصوت دافئ للمدينة المكلومة.
أكثر من بائعة شاي
لم تكن وارقو بائعة شاي عادية. في شارع الجرائد الشهير، كانت بسطتها نقطة التقاء يوميّة للصحفيين، ومكانًا تنطلق منه النقاشات، وتُبنى فيه الصداقات، وتُروى فيه الحكايات. كانت تعرف وجوه روّادها، تحفظ مواعيدهم، وتجهّز لكل منهم كوبًا خاصًا بطريقته، كما تحفظ الأمهات تفاصيل أبنائهن.
مفاجأة غير متوقعة
تحكي الصحفية سارة إبراهيم أنها اتصلت بوراقو مؤخرًا للاطمئنان عليها بعد غيابها بسبب الحرب، وخلال الحديث أخبرتها بأن الزميل أشرف عبد العزيز، رئيس تحرير صحيفة الجريدة، يُعاني من فشل كلوي ويتلقى العلاج حاليًا في القاهرة.
ما لم تتوقّعه سارة، ولا كل من عرف وارقو، هو ردّها العفوي والمؤلم في آنٍ معًا:
“حييييا.. اعملوا لي الفحوصات، شيلوا لي كليتي ودوها ليه.”
جملة واحدة اختزلت فيها الفطرة السودانية الصافية التي لا تُفكّر كثيرًا عندما يتعلق الأمر بالعطاء، بل تبادر، وتقدّم، وتُدهشك بصدقها.
من الشاي إلى الشهادة على الزمن
في زمن تغيب فيه المؤسسات وتتراجع فيه المبادرات الرسمية، جاءت كلمات وارقو كوميض في عتمة الأخبار، لتعيد تعريف التضامن على الطريقة السودانية الأصيلة. لم تكن مبادرة منظمة، ولا تصريحًا صحفيًا، بل انفجار وفاء من قلب امرأة بسيطة، كانت وما زالت تمثّل ضمير المدينة.
درس في الإنسانية
الصحفي أشرف عبد العزيز، الذي كتب طويلاً من أجل البسطاء، وجد هذه المرة من ينحاز إليه من قلب الشارع: سيدة لا تملك إلا براد شاي وقلبًا عظيمًا. في بلد يعاني من النزاعات والتشظي، جاء هذا الموقف ليقول إن الأمل لا يزال يسكن في تفاصيل الحياة اليومية، في وجوه البسطاء، وفي أفعال أشخاص مثل وارقو.
وارقو.. ضمير الخرطوم
تغيب وارقو عن شارع الجرائد بفعل الحرب، لكن بصمتها لا تزال حيّة في ذاكرة كل من احتسى شايها أو حكى لها وجعه. تقول سارة إبراهيم:
“كنا نعرف أن الخرطوم بخير، طالما وارقو موجودة.”
واليوم، في ذروة الانكسار، أعادت إلينا وارقو تلك الثقة القديمة بأن السودان ما زال بخير، ما دام فيه من يقول:
“شيلوا لي كليتي ودوها ليه.”
إنها ليست بائعة شاي فقط، بل درس نادر في الوفاء، مرآة لضمير المدينة، وسبب كافٍ لأن نستمر.